إذا كان من أبرز صفات السائل أنه يتشكل بشكل الإناء الذي يوضع فيه، فإن من أبرز سمات العقول السائلة أنها تتشكل بحسب الموقف اللحظي الذي توضع داخله، فالسياق الماضي يتم نسيانه تماما، كما أن سياقات المستقبل الممكنة لا تُرى إلا كامتداد للواقع الحالي .
هناك فارق كبير بين المرونة مع الواقع، والتي هي سمة محمودة تتيح للعقل التعامل معه، وبين التشكل به، والتي هي سمة مذمومة تجعل العقل أسيرا له ومحدودا به .
فلا ينكر أحد أن الواقع له قيمته، في اعتبار الخيارات وتغييرها أو حتى في استبعادها. فالعقل الذي لا يعمل في الواقع يطحن في الفراغ، والذي لا يعتبر الواقع لا يستطيع استثمار خيره وتقليل شره، وبالتالي .. تقل قيمته كثيرا في الواقع .
لذا كان العقل المتماسك هو المنطلق من أرضية شرعية واسعة، بحيث يكون قادرا على استيعاب مختلف الحالات الواقعية، وعلى إحسان التعامل معها دون أن يعاد تشكيله. فيفرق بين الهدف المرحلي [مثلا: الحصول على مساحة من الحرية والعدل، كما في الهجرة إلى الحبشة] وبين الهدف النهائي [إقامة الدين في الأرض] . كما يفرق بين حال الاضطرار وأحكامها [من العفو والمتاركة] وبين حال الاختيار وأحكامها [من المعاقبة والمجاهدة] … الخ .
فالذين يصنعون الواقع حقا هم أصحاب العقول المتماسكة، لأن أعينهم لا تحيد عن الهدف. ثم هم لا يقفزون نحوه قفزة تقطع ما بينهم وبينه، كما أنهم لا يستسلمون لاعتبارات مرحلية يتعاملون معها قبله. أما أصحاب العقول السائلة فهم وقود لمراحل واقعهم، ربما يكون لهم فيها بذل. لكنهم نادرا ما يحصدون ثمار تضحياتهم، أو يتدرجون بما يوصلهم لهدفهم .
إن صدمة التغيُّر تصيب أصحاب العقول السائلة، مع انكسار الشكل اللحظي الذي توهموا استقراره [فمثلا: من تشكلوا بحرب العصابات في الحرب الأفغانية الأولى، صدموا مع أول ثمارها في أفغانستان، وصدموا مع عدم نجاح نقلها إلى بلاد أخرى / ومن تشكلوا بالحراك السياسي في ثورات الربيع العربي، صدموا مع قسوة موجات الثورة المضادة] .
مع أن خبرة التاريخ تدعم التماسك العقلي المرن، الذي لا يفوّت فرص اللحظة الراهنة [كمن لم ينتفعوا بلحظات هامة سابقة] وفي نفس الوقت لا تستسلم لأسرها، بل تستثمرها لما بعدها، وما بعدها ليس بالضرورة أن يكون من شكلها [فمثلا: الهدنة في غزة لا تعني الركون إلى المسالمة، بل تعني الاستعداد السياسي والعسكري والشعبي للمواجهة التالية] .
إنني لا أرى أن الحركة الإسلامية في مصر أخطأت حين تحركت في فعاليات ثورة يناير، ولا أخطأت حين استفادت من زيادة هامش الحرية السياسي والإعلامي، لكنها – في كثير من فئاتها – أخطأت حين توهمت استمرار هذه الحالة مع وجود الصراع (الداخلي/ والخارجي) ضدها، ولم تسع لتقويتها وتأهيلها لمواجهة التغيير المضاد الممكن .
لقد أخطأ الكثيرون حين ظنوا أن لحظة نصر سياسي ما هي نهاية التاريخ، حتى ذابوا في ممارسات جماعة الإخوان – التي تصدرت المشهد السياسي – بل ذابوا في تقديراتها ، وفرض الواقع المؤقت نفسه عليهم فأعاد تشكيل عقولهم بما يلائمه فقط. ولم يكن هذا صوابا، ولا أقررناه في حينه .
ويكرر كثيرون الخطأ نفسه حين يظنون أن لحظة نصر جهادي ما هي نهاية التاريخ، فيذوبون في ممارسات جماعة الدولة – التي تتصدر المشهد الجهادي – وفي تقديراتها كذلك، ويفرض الواقع المؤقت نفسه عليهم فيعيد تشكيل عقولهم بما يلائمه فقط. وليس هذا صوابا، ولا ينبغي أن نقره .
إن كل حدث تغييري في ظرفه يؤدي دوره، ونحن لسنا ملزمين بالقسمة الثنائية (القبول الكامل/أو الرفض الكامل) . وتفريقنا بين أولياء الدين وبين أعدائه، تفريق عقدي لا يخضع للمساومة. ونقدنا للحالة الإسلامية نقد للنفس ونصح لها، مع ما نرجوه من برّ الله وصنعه لها وبها. أما اليقين فهو أن .. المستقبل للإسلام .